د. سهام رزق الله
أستاذة محاضرة وباحثة في جامعة القديس يوسف، لبنان
مع تنامي البحث في مفهوم المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، ولا سيّما بعد تخطّي المسؤولية الاجتماعية للشركات لتشملَ مختلف المؤسسات بشكلٍ عام وفقَ معايير أيزو 26000، لا بدّ من التوقّف عند مفهوم المسؤولية الاجتماعية للجامعات بشكل خاص. فالمسؤوليات الجامعية تتحمّل ثلاث مسؤوليات رئيسة: التعليم، الأبحاث العلمية، وخدمة المجتمع.
فما هي مقوّمات هذا المفهوم الجديد؟ وما هي انعكاساته في مجال الدراسات العليا ومسؤولياتها في إدراج مبادئ المسؤولية الاجتماعية في مختلف مؤسسات المجتمع وإعداد العنصر البشري الكفوء لإرساء وتركيز أسسِها ومواكبة تطبيقِها.
المسؤولية الاجتماعية
في البداية، لا بدّ من توضيح الفَرق بين المسؤولية الاجتماعية وخدمة المجتمع التي تُشكل إحدى الركائز الثلاث للمسؤولية الاجتماعية للجامعات. فالمسؤولية الاجتماعية للجامعات هي مفهوم أوسع وأشمل من خدمة المجتمع، ويقَع على عاتق مؤسسات التعليم العالي بشكل خاص استناداً إلى جملة من المبادئ والقيَم وانطلاقاً من الدور الاجتماعي للجامعات في التعليم والأبحاث العلمية والشراكة الاجتماعية وإدارة المؤسسات.
إنّ صلبَ الدور الاجتماعي للجامعات يتجلّى في الالتزام بالمسائل المتصلة بالعدالة، المصداقية، الالتزام، العدالة الاجتماعية، التنمية المستدامة، حرية الفرد وكرامته، إحترام التنوّع الثقافي، تعزيز واحترام حقوق الانسان والمسؤولية المواطنية.
ويمثّل التعليم العالي إحدى الركائز الأساسية التي تقدّمها الجامعات لخدمة المجتمع من خلال إعداد الكوادر والرأسمال البشري المتمكّن من المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة على الصُعد العلمية والاقتصادية والاجتماعية.
كما أنّ على الجامعات التأكّد من أنّ التوصيات العلمية التي تَصدر عن ندواتها ومؤتمراتها تَشمل النواحي البيئية والاجتماعية والأخلاقية لمختلف أعمالها. فالبحثُ العلمي ضروري لجعلِ المعلومات في خدمة المجتمع وتحسينِ نوعية الحياة. وبالتالي لا تكون المعلومات المنقولة نظرياً غريبة عن الواقع، فلا تكتفي الجامعات بنقلِ المعطيات الأكاديمية بغضّ النظر عن التمكّن من تطبيقها.
ويتبيّن أنّ أبرز نواحي المسؤولية الاجتماعية للجامعات تتجلّى في إعداد مواطنين منتِجين ومسؤولين، وتشجيعِ الشراكة والمشاركة الفاعلة في صلبِ المجتمع المدني، وتنميةِ الكفاءات وتحقيق التوجيه المناسب نحوها. هذه الناحية من التعليم العالي تشكّل أحدَ أبرز مستلزمات التزام الجامعة تجاه المجتمع. من هنا نَفهم دور جامعات البلدان المتقدمة في تشجيع طلابِها على التفكير في سُبل خدمة المجتمع على الصعيد العالمي، ولا سيّما التي في البلدان النامية، بما يفسِح في المجال أمام الحوار وتلاقي الثقافات المتنوّعة.
الشهادات والنشاطات
كما أنّ الجامعات هي التي تَصنع المستقبل، وبالتالي تقع عليها مسؤولية جعلِ «شهاداتها مسؤولةً إجتماعياً» بحِرصها على: إعداد نظام الإدارة الجيّدة، إقتصاد الطاقة، واستعمال الطاقات المتجددة، تخفيف إدارة النفايات وإعادة تدويرها، وضع استراتيجيات التنمية المستدامة، العمل على تعزيز روح المبادرة، المبادرات المبتكرة، تنمية مواهب الطلاب ليكونوا مواطنين منتِجين، حسنِ إدارة الموارد البشرية لتشجيع وتوجيه الجهود نحو العمل التطوعي، وتنميةِ المجتمع… كلّ ذلك يَدفعنا للقول إنّ جامعات اليوم هي جامعات المجتمع لأنها تعيش تحدّيات وحاجات المجتمع، كما فرَصَ وطموحات المجتمع.
وثمّة نشاطات جامعية عديدة من شأنها المساهمة في المسؤولية الاجتماعية، مِثل: توجيه البحث العلمي نحو المجالات التي تلبّي حاجات المجتمع ومختلف العملاء الاقتصاديين، تنظيم مؤتمرات علمية، التبادل الأكاديمي، النوادي الثقافية، منتديات الحوار، المعارض والمنتديات الثقافية والوطنية، دورات الإعداد والتدريب والتعليم المستمر، ورَش العمل الاقتصادية-الاجتماعية والثقافية في مختلف البرامج، حلقات الحوار والنشاطات التي يتمرّس فيها الطالب على التواصل مع المجتمع (المؤسسات العامة، الشركات الخاصة، الهيئات المحلية في البلديات وجمعيات ومنظمات غير الحكومية..) ليتبلوَر له كيفية استخدام ما يتعلّمه في خدمة المجتمع الذي ينمو فيه.
التطبيق العملي
إلّا أنّ هذه الإنجازات تتطلّب وضعَ ورقةِ عملٍ استراتيجية لتحقيق المسؤولية الاجتماعية للجامعات، وتشكيلَ هيئةٍ تُراقب المسؤولية الاجتماعية، وتحديدَ الأفرقاء المعنيين بمختلف البرامج وتوقّعاتهم من مختلف برامج المسؤولية الاجتماعية المطروحة، وإعدادَ الدراسات والأبحاث المناسبة لها.
وبذلك تكون الجامعة مساهمةً في بناء المواطنية المسؤولة اجتماعياً من خلال إدراج حاجات المجتمع ومفاهيم الحياة العامة في صلب الحياة الجامعية بالنشاطات الصفّية وغير الصفّية. كما مِن خلال تمكينِ المتخرّجين من التعامل مع مختلف تقنيات التواصل والبحث والحوار وتبادل الأفكار وترجمتها لإنجازات في خدمة المجتمع بكافّة مكوّناته وفئاته العمرية والاجتماعية والثقافية…
هكذا يكون مشروع المسؤولية الاجتماعية للجامعات مساهِماً في تحقيق التنمية والترويج للنواحي الاجتماعية للتعليم العالي. هكذا تكون المسؤولية الاجتماعية للجامعات متّسمةً بروح المواطنية والتنمية المستدامة، ومنطبعةً بكون التربية خدمةً عامةً والتزاماً تجاه المجتمع الذي تنشَط فيه، ناشرةً لمختلف السياسات والممارسات التي من شأنها تحقيق الازدهار والتنمية وفرَصِ العمل والتقدّم وتحسين مستوى العيش، وواحةً لفتح آفاق المنافسة نحو تقديم الأفضل وجعلِ البحث العِلمي في خدمة التطبيق العَملي.
وبالنتيجة، لا تكون المسؤولية الاجتماعية للجامعات فصلاً في درس أو مشروعاً في جملة نشاطات أو قسماً من هيكلية المؤسسات، إنّما قيمة راسخة في استراتيجيتها ينبغي أن تُترجم في مختلف أوجه رسالتها.
يبقى القول إنّ المسؤولية الاجتماعية للجامعات هي المدرسة الأولى للتمرّس على المسؤولية الاجتماعية في المؤسسات بشكل عام. ولكن يبقى السؤال عن المعايير المعتمَدة لقياس المسؤولية الاجتماعية للجامعات وآلية مساهمتها في إدخال وتثبيتِ مفهوم المسؤولية الاجتماعية عامّةً في البلاد.